مجتمعات تنتج التعصب وانكار الآخر: مصر والجزائر مثالاً
خلال الأيام القليلة الماضية وإزاء الاشتعال غير المسبوق لحملات الكراهية
المتبادلة في الإعلام المصري والجزائري وما صاحبها من أعمال عنف على خلفية
تنافس منتخبي البلدين الوطنيين لحجز بطاقة التأهل لكأس العالم في كرة
القدم في جنوب افريقيا العام المقبل، عمل المتعقلون في إعلام البلدين
والإعلام العربي على التعاطي الاحتوائي مع الحدث والحيلولة دون تصاعده إلى
أزمة سياسية مفتوحة بين مصر والجزائر، وعمدوا إلى اربع إستراتيجيات جمع
بينها قصور الطرح وليس واقعيته الناتجة عن التزام مفردات ومضامين التعامل
الإنكاري المعهود مع الخلافات العربية - العربية.
البعض رفع لواء الأخوة العربية، مضيفاً إليها بين الفينة والأخرى صبغة
إسلامية، لتذكير المصريين والجزائريين بروابط العروبة المقدسة وبالمصير
الواحد ولم يحصد على مستوى الشارع المجير للمتعصبين على الطرفين سوى
التجاهل استناداً إلى واقع الانقسام العربي والاستهزاء بعد تفنيد الإدعاء
بالهوية المشتركة بصياغات أنكرت على المصريين عروبتهم بعد أن «باعوا
فلسطين» ووصفوا انفسهم «بالفراعنة» واختزلت الجزائريين في «بربر لا
يتحدثون اللغة العربية» والفرنسية لهم أقرب.
البعض الآخر عمد إلى استدعاء حمولة تاريخ النضال المشترك بين المصريين
والجزائريين محيياً - خاصة على العديد من صفحات الرأي في الصحافة العربية
- ذكريات الدعم المصري للثورة الجزائرية ودعم الجزائر للمجهود العسكري
المصري في حربي 1967 و1973، إلا أنه فوجئ بشارع المتعصبين مستحوذا على
التاريخ المشترك ومحولا إياه إما إلى استقلال جزائري من الاستعمار الفرنسي
حققه المصريون في تطاول رديء على بلد المليون ونصف شهيد وكفاحه البطولي ضد
المستعمر على مدار قرن ونيف من الزمان، أو إلى شماتة لا تقل رداءة في نكسة
1967 وتشكيك لا يليق في نصر أكتوبر 1973 الرمز المتوهج للوطنية المصرية
المعاصرة.
فريق ثالث ارتأى مقاومة حملات الكراهية المتبادلة في الإعلام المصري
والجزائري معوّلاً من جهة على الإستراتيجية الأكثر شيوعا في عالمنا
العربي، وقوامها إعادة إنتاج صورة إسرائيل كعدو مشترك لكل العرب يستفيد
دوما من خلافات وصراعات الأشقاء، ومتهما من جهة أخرى «الأصابع الخفية
للصهيونية العالمية» بإذكاء نار التعصب بين «الشعبين الطيبين في مصر
والجزائر» عن سابق إصرار وترصد. بيد أن حظوظ إستراتيجية «إسرائيل العدو»
هذه فيما خص فاعلية التأثير على الشارع لم تختلف كثيرا عن سابقتيها. إذ
أضحى السلام المصري-الإسرائيلي بمثابة عريضة تخوين يسوقها المتعصبون في
الإعلام الجزائري ضد مصر الرسمية والشعبية، وسط مزاعم أن «الصديقة تل أبيب
هنأتها على الفوز على الجزائر في موقعة القاهرة في 14 تشرين الثاني
/نوفمبر»، وأن رجال أمنها لم يتورعوا عن «إهانة العلم الجزائري في الوقت
الذي يرفع فيه علم إسرائيل في العاصمة المصرية»، في حين وصف المتعصبون في
الإعلام المصري -خاصة محدودو الثقافة والوعي بين مقدمي البرامج الرياضية -
الشعب الجزائري «ببني صهيون العرب» واتهموا حكومته بإدارة علاقات تعاون
خفية مع إسرائيل.
أخيراً وإزاء محدودية فاعلية الإستراتيجيات الثلاث السابقة في احتواء
حملات الكراهية المتبادلة، لجأ فريق رابع من متعقلي الإعلام العربي إلى
تفسير أو تبرير هستيريا التعصب الجماعي في مصر والجزائر بإحالتها إلى
وضعية الفشل والإخفاق التي تعيشها قطاعات واسعة من مواطني البلدين، وبحثهم
المريض ومن ثم العنيف عن مساحات ولحظات لتصريف مخزون الإحباط اليومي، وإن
على حساب أشقاء لهم في الإخفاق قبل العروبة. مجدداً، جافى هذا التفسير
واقع شارع المتعصبين في مصر والجزائر الذي لم يقتصر محركوه على الفقراء
والمحرومين، بل تمدد ليشمل الشرائح الوسطى والميسورة الحال التي خلط
أعضاؤها بين انتماء صحي للوطن يدفع بإيجابية متفائلة للحماس لمنتخباته
وفرقه ورموزه (العلم والنشيد الوطني) وبين المعنى الشوفيني والاستعلائي
للوطنية في وجه الخصم الآخر المنافس، بحيث يتم نفيه التام ومن ثم استباحته
أفراداً ورموزاً إرضاء لغرور الذات الوطنية. والحقيقة أن مجرد المتابعة
الأولية لنتاج حملات الكراهية المتبادلة بين المصريين والجزائريين على
المواقع الإلكترونية التفاعلية كالـ «يوتيوب» والـ «فيسبوك» تكفي للتيقن
من كون حركية شارع المتعصبين لم تقتصر بأي حال من الأحوال على الفقراء
والمحرومين. فمستخدمو هذه الوسائط الحديثة، وهم بوجه عام في البلدين من
المتميزين اجتماعيًا واقتصاديًا، روجوا لمواد فيلمية وغنائية (خاصة أغاني
الراب) جاءت لجهة محتواها العنيف والكاره للآخر المنافس أسوأ من الحصاد
المتعصب للإعلام المرئي والمكتوب.
بعبارة بديلة، غابت الفاعلية عن إستراتيجيات التعامل الإنكاري التي عوّل
عليها المتعقلون في الإعلام العربي لاحتواء حملات الكراهية المتبادلة بين
مصر والجزائر، لأن واقع التعصب تجاوزها إما بتفنيد مفرداتها أو بالاستحواذ
عليها وإعادة تعريفها على نحو يفرغها من المضمون. فكما لم تعد احتفاليات
الأخوة العربية ومحاولات استدعاء التواريخ المشتركة قادرة على ضبط حركة
الشارع في ظل راهن عربي جوهره الانقسام والتشرذم، فقدت كذلك صورة إسرائيل
كعدو يقف باستمرار وراء خلافات وصراعات الأشقاء العرب وكذلك اختزال التعصب
في إحالة سببية سطحية إلى تفشي الفقر في المجتمعات العربية الشق الأكبر من
صدقيتهما التفسيرية.
الأصدق وربما الأكثر نجاعة على المدى الطويل هو أن نعترف بأننا أمام
مجتمعات، وأزعم أن الأمر لا يقتصر على الحالتين المصرية والجزائرية
ودينامية المنافسة الرياضية بينهما، لديها قابلية مرتفعة لإنتاج التعصب
واستبعاد الآخر لأسباب مختلفة، منها السياسي المرتبط بقصور ثقافة الحوار
السلمي المستندة دوما إلى تعدد وجهات النظر والاقتناع بانتفاء القدرة على
احتكار الحقيقة المطلقة، ومنها الاجتماعي الناتج عن ضعف الوسائط التعليمية
وأدوات التربية المدنية المفترض فيها تعميم تفضيلات قيمية تقبل الآخر
وتحترمه، ومنها أيضا النابع من فشل مجتمعاتنا في صوغ علاقات ذات تراتبية
واضحة بين هوياتها الوطنية وانتمائها إلى إطارات جمعية أوسع إن عربية أو
إسلامية. يتأسس على مثل هذا الاعتراف في خطوة ثانية حتمية البحث داخل
المجتمعات العربية وفي ما بينها عن سبل عملية لمواجهة القابلية للتعصب
انطلاقاً من الواقع الراهن ومن دون مبالغات احتفالية أو استدعاءات ماضوية.
وقناعتي أن لنا في تجربة أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية،
وتحديداً في ما خص دعم ثقافة الحوار السلمي داخل المجتمعات الأوروبية
والدور الهام الذي لعبته أدوات التربية المدنية في هذا الصدد، وكذلك صناعة
قبول الآخر من خلال برامج للتعاون التعليمي والمهني والرياضي صممت لتخطي
حدود الدول الوطنية من دون إلغائها، لنا في ذلك العديد من الدروس المهمة
التي آن أوان الانفتاح الجاد عليها والاستفادة منها.
عندما انهزم الفراعنة في السودان!
حينما انتهت مباراة مصر والجزائر بالتعادل في كل شيء في القاهرة ، تقرر
إقامة مباراة فاصلة بينهما في السودان ، وتم ذلك بعد أن أجرى الفيفا قرعة
كروية حول مكان إقامة المباراة التاريخية وعندها اختارت مصر السودان بينما
اختارت الجزائر تونس ومن ثم شاءت قرعة الفيفا أن يكون السودان موقعاً
للمعركة الكروية الفاصلة بين العملاقين الكرويين العربيين الإفريقيين!
ولعل الأجواء التي سبقت المباراة كانت في غاية الغرابة ، فقد اختلط حابل
الدين بنابل الرياضة وصدرت فتاوى دينية كروية مصرية تضع المتعصب الكروي في
مصاف المحارب أو قاطع الطريق بينما نافستها فتاوى دينية كروية سودانية
تحرم على السودانيين تشجيع الفريق المصري أو الجزائري باعتبار أنه لا يجوز
شرعاً للمضيف أن ينحاز إلى أحد ضيفيه بأي حال من الأحوال!
كذلك تسارعت وتيرة الحرب الإعلامية الغوغائية وتصاعدت مناوشات التصريحات
العدائية من قبيل (سيكون استاد القاهرة مقبرة للجزائريين) وتعقد الموقف
الأمني إلى أقصى درجة إثر اعتداء أشخاص مجهولين على حافلة اللاعبين
الجزائريين في القاهرة واعتداء المشجعين الجزائريين الغاضبين على مقر إحدى
الشركات المصرية في الجزائر، ولعل محاولة السودانيين إشاعة الروح الرياضية
بين الفريقين المتنافسين قد تلقت لطمة كبرى حينما رفض رئيس الاتحاد
الجزائري لكرة القدم مصافحة أحد المسئولين الرياضيين المصريين!
ولعل التسيس الرياضي لهذه المباراة قد بلغ منتهاه حينما نشر أحد
الإعلاميين الرياضيين الجزائريين مقالاً مفاده أن الجزائر تحترم سيادة
السودان على كافة أراضيه ولا تقبل الاعتداء عليها بأي حال من الأحوال وهي
إشارة جزائرية للبيب السوداني مفادها: لا تشجع مصر لأنها تحتل حلايب
السودانية!
بل أن التاريخ قد تداخل مع الرياضة بصورة مريبة فقد تطير أحد أصدقائي
المصريين من حكم جزيرة سيشل وراح يلعن سنسفيل الحظ الذي يأبى اختيار الحكم
من خمسة وأربعين دولة أفريقية كبرى بينما يقع اختياره على حكم جزيرة سيشل
تلك الجزيرة التي لا ترى بالعين المجردة ، وحينما سألته عن سر تحامله على
جزيرة سيشل المسكينة قال لي: ألا تذكر أن الانجليز قد نفوا إليها قائد
الثورة المصرية سعد زغلول!
ولهذا لم يكن يوم 18/11/2009 يوماً عادياً بأي حال من الأحوال ، لا
بالنسبة للمصريين ولا الجزائريين ولا السودانيين ، فقد اتجهت أنظار الفيفا
وكل العرب وكل الأفارقة نحو استاد المريخ بأمدرمان لمشاهدة الموقعة
الحربية الكروية الحاسمة المؤهلة لمونديال جنوب أفريقيا لعام 2010 بين
الفراعنة وثعالب الصحراء!
قبيل المباراة ، قدم تلفزيون جمهورية السودان أغنية رياضية للفنانة ندى
القلعة التي توشحت بألوان العلمين المصري والجزائري بغرض كسب ود الضيفين
الكرويين وتلطيف حدة مشجعيهما فكان ذلك تداخلاً عجيباً بين الفن والرياضة!
ثم تناقلت كل الفضائيات العربية خبر سوداني عاجل مفاده أن حكومة السودان
قد قامت بتكليف خمسة عشر ألف شرطي لحفظ الأمن الكروي في امدرمان خوفاً من
اندلاع حرب رياضية بين مشجعي الفريقين!
أما المباراة نفسها فالحديث عنها ذو شجون رياضية ، ولعل كل من شاهد
المباراة بعيون محايدة يخرج بتحليل رياضي مفادة أن المباراة كانت مباراة
الحسابات المعقدة بإمتياز بل ثبت من خلال مجرياتها أنها كانت مباراة حراس
مرمى في المقام الأول فقد تواجه الحارسان العملاقان الحضري وفوزي واستبسل
الأسدان في الدفاع عن عرينيهما إلا أن قذيفة المدافع الجزائري عنتر يحى
التي لا ترد قد جعلت من استاد المريخ السوداني مقبرة لأحلام المصريين في
التأهل لمونديال جنوب أفريقيا ، وفي نهاية المطاف لا يملك أنصاف العقلاء
إلا أن يقولوا لمجانين كرة القدم إنها مجرد مباراة من تسعين دقيقة ولا بد
أن تنتهي بفائز وخاسر فهاردلك للفراعنة ومبروك لثعالب الصحراء التي انتزعت
بمكرها الكروي بطاقة التأهل المونديالي من المصريين وحرمتهم من الفوز في
الميدان السوداني الذي كانوا يعتقدون لأسباب جغرافية بحتة أنه حديقتهم
الخلفية الآمنة التي لا يُمكن أن يُهزموا فيها بأي حال من الأحوال!