دكتور محمد المهدي
على الرغم من روعة وعظمة الثورة المصرية التي قام بها الشعب المصري بسائر طوائفه في 25 يناير 2011م , إلا أن هذه الثورة العظيمة تتعرض الآن لأكبر خديعة , حيث مضى على بدأ قيامها شهر كامل , وانبهر بها العالم أجمع بما فيها من رقي وتحضر وخلق رفيع , ومضى على انتقال مبارك إلى شرم الشيخ ثلاثة عشر يوما ومع هذا مازالت البلاد تدار بواسطة حكومة اختارها حسني مبارك وأقسم أعضاؤها ورئيسها اليمين أمامه , وظل رئيسها مصمما على بقاء مبارك في الحكم حتى نهاية ولايته (لولا أن الشعب أجبره على الرحيل) , وكان شديد الوفاء له حيث أنه أحد تلاميذه الأوفياء ممن يعتقدون بأن مبارك له أفضال كثيرة عليه وأن له دين في رقبته , وهو الذي ظل يصف الثورة بأنها احتجاج وأحيانا حركة , وهو الذي وعد بحماية الموجودين في ميدان التحرير وفي اليوم التالي مباشرة حدث هجوم الجمال والخيل على الثوار ومات منهم الكثيرون ولم يحدث حتى الآن تحقيق جاد في هذه الجريمة البشعة التي حدثت في عهده , وهو الذي سخر من الثوار حين قال بأنه سيرسل لهم "بونبوني" إشارة إلى أنهم أطفال يلعبون في الميدان . ليس هذا فقط بل إن هذه الوزارة التي تحكمنا بعد قيام الثورة تتشكل بنسبة 75% من الحزب الوطني ولجنة السياسات بكل ما عرف عنهما من فساد وإفساد ونهب لثروات البلاد , ومن المفترض أن وزارة هذه تركيبتها وهذا رئيسها تقوم على تسيير أعمال مصر بعد الثورة وفي الفترة الإنتقالية التي يتم فيها وضع الدستور وتتم محاكمة الفاسدين من العهد السابق ويتم تطهير البلاد من رموزه . كما أن قيادات البلاد في كل المواقع مازالوا هم الذين عينهم الحزب الوطني وزكاهم جهاز مباحث أمن الدولة , والكل يعلم بأن تلك القيادات ماهي إلا رموز للفساد تربوا على أعين المفسدين الكبار في الحزب ووزارة الداخلية . ومازال رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء تحرير الصحف القومية الذين زيفوا وعي الشعب في زمن مبارك وعصابته , وأيدوا الحكم السابق وتغنوا بأمجاده , وحاربوا كل من عارضه , مازال هؤلاء جميعا في أماكنهم ينتظرون اللحظة المناسبة للإنقضاض على الثورة وإجهاضها , أو على الأقل تفرغها من مضمونها ببعض التغييرات الشكلية .
والأخطر من ذلك بقاء جهاز مباحث أمن الدولة بكل ماعرف عنه من جرائم إذلال وتعذيب المصريين وإفساد جوانب الحياة في مصر بتدخله وسيطرته على كل شئ , وقمعه للمعارضين وإجهاضه لكل محاولات الإصلاح التي قامت لتصحيح مسار النظام الفاسد , وبدلا من أن يكون في خدمة مصر والمصريين سخر كل إمكاناته لخدمة مبارك وحزبه الفاسد .
وحين يقدم حبيب العادلي للمحاكمة فهو يقدم بتهمة غسيل أموال وهي تهمة يسهل لأي محامي مبتدئ أن يترافع فيها ويحصل على البراءة من أول جلسة , بينما لم تأت إشارة إلى جرائمه الخطيرة في تعذيب المصريين في السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة , وقتل المتظاهريت السلميين بالرصاص الحي , ودهسم بسيارات الشرطة , والتخلي عن رعاية أمن البلاد بسحب قوات الشرطة من الشوارع إبان أحداث الثورة , وإخراج المجرمين من السجون ليروعوا شعبا بأكمله .
إذن فنحن أمام حالة عبثية لم تحدث في أي ثورة قديمة أو حديثة , فالثورة في أبسط تعريفاتها هي إسقاط نظام واستبداله بالكامل بنظام آخر , وبناءا على هذا فإن الثورة التي قام بها الملايين على مدى ثمانية عشر يوما , ودفعت ثمنا غاليا من دماء أربعمائة شهيد وستة آلاف جريح يتم خداعها الآن والإلتفاف حولها وتخديرها وضربها على قفاها في الوقت الذي يربض فيه صفوت الشريف وأحمد فتحي سرور وزكريا عزمي في انتظار اللحظة المناسبة لإطلاق الإشارة والأوامر لقيادات الحزب الوطني وعملاء أمن الدولة وخلاياهم النائمة الذين يسيطرون الآن على الوزارة وعلى كل المراكز القيادية بطول مصر وعرضها للقيام بالثورة المضادة .
والأخطر من ذلك أن رأس النظام حسني مبارك مازال موجودا في شرم الشيخ هو وأسرته يطمعان ويطمحان في استعادة المجد والثروة في لحظة ينام فيها الثوار ويلعب فيها ثعابين وعقارب وثعالب النظام القديم .
أيها الشعب المصري , أيها الثوار , إن قبول ما يحدث خيانة لدم الشهداء وضياع لثورتكم العظيمة وإهانة لكرامتكم , فانتبهوا وأكملوا الطريق حتى النهاية .